أنا في واحدة من أشد الدول حرًا في العالم، والسماء تمطر. تمطر بقوة، وبلا هوادة. ولكنني لم أبتل. هل أحلم؟ هل هذه رؤيا؟ لا هذا ولا ذاك. أنا في غرفة المطر، مكان فني مبتكر، حيث يمكن للزوار أن يحافظوا على جفاف ملابسهم أثناء السير عبر الأمطار بفضل الحساسات القادرة على اكتشاف الجسم البشري المتحرك. بعد الجولات الناجحة في لندن ونيويورك ولوس أنجلوس وشنغهاي، استقرت القطعة أخيرًا بصورة دائمة في الشارقة.
تقع الشارقة شمال إمارة دبي مباشرة، وتعتبر واحدة من أصغر الإمارات السبع المكونة لدولة الإمارات العربية المتحدة. سمعت عنها للمرة الأولى خلال زيارتي السابقة لمدينة دبي، وكأحد هواة الفنون، شعرت بالانجذاب نحوها على الفور عندما أخبرتني إحدى صديقاتي عن أنشطتها الفنية والثقافية. وسردت لي سريعًا أسس عراقة الشارقة الثقافية: استضافة بينالي الشارقة الدولي، معرض الشارقة الدولي للكتاب وترينالي الشارقة للعمارة. تحتوي على 18 متحفًا، من بينها متحف الشارقة للفنون المتميز. إعادة إعمار مركز المدينة التاريخي. عاصمة اليونسكو الثقافية للعالم العربي في عام 1998. عاصمة الثقافة الإسلامية في عام 2014. حسنًا، حسنًا! لقد اقتنعت. لذا، عندما عدت مؤخرًا إلى دبي للاحتفال بعيد ميلاد أحد أصدقائي، قررت الذهاب لأرى بنفسي ما تحتفظ به الشارقة في طرقاتها لهواة الثقافة مثلي.
بدأت رحلتي في صباح أحد الأيام الحارة من شهر سبتمبر. قدت سيارتي نحو الشمال، بدت لي الشارقة في البداية كامتداد غير منفصل عن ضواحي دبي، حتى عبرت واجهة المجاز المائية والسوق المركزي متجهًا نحو الخور. كانت وجهتي: مركز مدينة الشارقة، المركز التاريخي الذي يحتوي أيضًا على الكثير من المراكز الفنية. كان التجديد طويل الأمد لهذه المجموعة من المباني الإماراتية التقليدية خير دليل على أن محاولتها الحفاظ على إرثها الثقافي جزء لا يتجزأ من رؤية الشارقة للمستقبل.
مؤسسة الشارقة للفنون: المسؤولة عن الفن المعاصر
صففت سيارتي وتوجهت نحو وجهتي الأولى: ساحة المريجة الفنية، عبارة عن خمسة معارض فنية مكعبة بيضاء اللون بجوار مؤسسة الشارقة للفنون. تأسست مؤسسة الشارقة للفنون في عام 2009، وهي القوة المحركة للفن المعاصر في دولة الإمارات وخارجها. كانت مديرة المؤسسة، الشيخة حور القاسمي - أصغر بنات حاكم الشارقة المحب للفنون، والذي يكتب الأشعار والمسرحيات - هي العقل المدبر لبينالي الشارقة الدولي الذي أطلقه والدها في عام 1993. والذي أصبح اليوم من أهم أحداث دورة المعارض الفنية العالمية والذي يجذب باستمرار أهم مديري المتاحف والفنانين من المنطقة والعالم. كما يعمل فريق ضخم من الموظفين المخصصين على تنظيم مجموعة كبيرة من المعارض والعروض ولقاءات الفنانين والعروض السينمائية وغيرها من المناسبات المجتمعية على مدار العام.
وبفضل واجهاتها المكعبة البيضاء الصارخة، امتلكت المعارض الفنية في ساحة المريجة طابعًا عصريًا. يتطلب الأمر عينًا مدققة لتلاحظ أنها بُنيت فوق أساسات منازل عائلات إماراتية من القرن التاسع عشر. أثناء سيري في تلك المتاهة من الأزقة الضيقة التي تربط بين المباني، لاحظت وجود كسرات وقطع من الجدران الأصلية المبنية من المرجان والجبس. وبينها، رأيت الأفنية - كانت إحداها تحتوي على شجرة غاف كثيفة الأوراق - التي تقدم المساحات المفتوحة في الساحة. كما مررت بحديقة الحي، والتي كانت تستخدم عادة للمناسبات المجتمعية، حيث كانت تغفو بها قطتان من سكان مؤسسة الشارقة للفنون.
ومع ارتفاع درجة الحرارة بشكل كبير، كان الوقت قد حان لقسط من الراحة. فيما بين المعارض، رأيت مقهى عصريًا صغيرًا اسمه "فن". دخلت على الفور إلى ذلك المكان الرطب على شكل حرف L بالإنجليزية ورأيت الأثاث الإسكندنافي الأنيق يمتزج مع الجدران التقليدية المبنية من المرجان، وكان السقف مبنيًا من ألواح خشبية وكانت مصاريع النوافذ من الخشب. كانت قائمة الطعام تمتلئ بالكثير من الأطباق المثيرة المشوقة، ولكن، كل ما تمكنت من تناوله هو عصير ليمون منزلي الصنع وكعكة أوبي ليتشي فلان. كانت تلك الكعكة اللذيذة جميلة الشكل عبارة عن رقاقات من اليام الأرجواني مكسوة بالكريم كراميل وخالية من رقائق السكر المكرمل.
سوق العرصة: صفقات في سوق تقليدي
في طريقي إلى محطتي الفنية التالية، لم أتمكن من مقاومة الدخول إلى سوق العرصة القائم منذ 150 عامًا، أحد أقدم الأماكن التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة. كان في الماضي يتعامل مع التجار من جميع أنحاء منطقة الخليج العربي والبدو المحليين، حيث كانوا يربطون جمالهم في أعمدة مخصصة خارج السوق. اشتريت كوبًا من شاي الكرك من مقهى السوق وبدأت أجوب المكان بعينيّ. أثناء ارتشافي لذلك الشاي اللذيذ الذي يحتوي على الهيل والحليب، جلت بنظري في المحلات التي تمتلئ بالمصنوعات اليدوية والصناديق الخشبية وأباريق القهوة والمجوهرات وشالات البشمين وغيرها من المصنوعات الصغيرة. في الفناء المركزي، شاهدت البائعين والسكان المحليين الذين يرتدون القندورة (أثواب) البيضاء الطويلة التي تصل إلى الأرض وهم يتبادلون الأحاديث أو ينامون القيلولة.
عبر الفناء، لفت نظري أستوديو شهر العسل. كانت كل بوصة من جدار أو أرفف استوديو التصوير المذهل عتيق الطراز ذلك معلقًا عليها إطار صورة التقطها مالك الاستوديو منذ حقبة الستينيات. كان يفخر بشكل خاص بالصور التي التقطها لأعضاء الأسرة المالكة، ولكني وجدت الصور الخاصة بمدينة الشارقة قبل عصر النفط أكثر جاذبية.
في ركن هادئ آخر، مررت بمصنع حلويات العماني، اسم كبير لمكان صغير. كانت الحلوى المقصودة هي الحلوى العمانية، الحلوى القومية في سلطنة عمان والتي تشتهر في منطقة الخليج العربي بشكل كبير. وقفت مذهولاً أشاهد العمال وهم يستخدمون مجدافًا ضخمًا لتقليب مزيج تطفو على سطحه الفقاقيع من الماء والسكر والسمن والنشا وماء الورد والمكسرات والهيل في قدر نحاسي ضخم ساخن. التقطت قطعة صغيرة من تلك الحلوى اللزجة ومضيت.
فن الخط: كلمات الجمال
بعدما خرجت من السوق، كان متحف الشارفة لفن الخط قريبًا للغاية، الأمر الذي جعلني أشعر بالكثير من الامتنان بسبب حرارة الجو الشديدة. في معارض مظللة تحيط ببهو ذي هيكل مقوس، أبرزت الأعمال على القماش والورق والسيراميك والخشب تطور ذلك الفن الخالد بداية من الكلمات المكتوبة بخط اليد إلى الخط المزخرف. على الرغم من أني لم أتمكن من قراءة أو فهم الحروف المكتوبة أمامي، إلا أني أعجبت كثيرًا بالتأثيرات الفنية؛ ضربات الفرشاة الواسعة أو الالتفافات الرقيقة التي بدت وكأنها ترقص في تناغم تام.
كان فن الخط المعاصر في انتظاري على ناصية شارع البنك، حيث كان فنان الشارع الفرنسي من أصل تونسي السيد قد وضع علامته التجارية "calligraffiti" لفن الشارع في الشارقة في عام 2015. استغرق منه الأمر أسبوعين من الجلوس في سلة رافعة ليتمكن من زخرفة واجهة أحد المباني المهجورة بتصميم شبيه بالثعبان مقتبس في الأساس عن شاعر القرن التاسع عشر أحمد بو سنيدة، عراقي المولد الذي عاش في الشارقة لفترة طويلة: "أتحدث إليك ولكنك لا تجيبني. أزورك، ولا تزورني".
متحف الشارقة للفنون: احتفال بالفن العربي
كانت أبرز وجهة في مغامرتي الفنية، متحف الشارقة للفنون، هي التالية على قائمتي. تأسس المتحف في عام 1987، ويعتبر إحدى أهم المؤسسات الفنية في منطقة الخليج العربي. يقدم المعرض الرئيسي بالمتحف والذي سيظل مفتوحًا حتى عام 2023 - يُدعى القرن المتغير – أعمالا نادرًا ما عُرضت من قبل أُنتجت في العالم العربي خلال الفترة ما بين عامي 1885 و1985.
بسبب نشأتي في أوروبا، نادرًا ما رأيت الفنون العربية ولم أكن أعلم شيئًا عن الحركات الفنية الأساسية على غرار الرواد في بغداد، المجموعة الفنية العراقية المعاصرة الأولى التي تكونت خلال حقبة الثلاثينيات، أو جماعة الفن والحرية التي كان مقرها القاهرة والتي استخدمت الرسم السريالي لتوصيل الرسائل السياسية في نفس الحقبة تقريبًا. كما أني لم أسمع من قبل عن أولئك الفنانين المبدعين أمثال إبراهيم الصلاحي، وسلوى روضة شقير أو كاظم حيدر على الرغم من السنوات الطويلة التي قضيتها في هوايتي بزيارة المتاحف. أطلعني هذا المعرض، ودون أدنى شك، على الكثير من الأمور التي لم أكن أعرفها!
كان ما وجدته، مجموعة مذهلة من اللوحات والمنحوتات والأعمال الإعلامية المختلطة فائقة التنوع، المبهرة بصريًا، المشحونة عاطفيًا أو سياسيًا. رأيت حوالي 120 من هذه الأعمال - رؤى من المغرب ولبنان والسودان، إلى مصر والعراق وفلسطين - والتي تنافست للفت انتباهي في تسعة معارض. درس الكثير من الفنانين المعروضة أعمالهم هنا في أوروبا أو الولايات المتحدة، ولاحظت تأثير المذهب السريالي والانطباعي والتعبيري والواقعي الاجتماعي وغيرها من المذاهب الفنية، والتي عادة ما امتزجت مع العناصر الفنية العربية على غرار فن الخط.
كان العمل الفني الذي وجدته الأكثر تأثيرًا من إنتاج حقبة الستينيات، الفترة التي اتسمت بالاضطرابات والنزاعات السياسية والعنف بعد الاستقلال عن القوى الاستعمارية. في المعرض 1، انجذبت عيناي على الفور نحو لوحة مشحونة عاطفيًا للرسام العراقي ضياء العزاوي. اسم اللوحة ذئب يعوي: ذكريات شاعر مستلهمة من قصيدة شعرية عن فقدان أم لابنها خلال الانقلاب العسكري في العراق عام 1963. هناك الكثير من الأعمال الأخرى التي تشير إلى نفس الحدث، من بينها لوحة كاظم حيدر المؤثرة عشرة أحصنة متعبة تتحاور مع العدم. اللوحة موضوعة في مكان منفصل على جدار فاصل في الردهة ذات السقف المقوس التي تربط بين المعارض، وهي عبارة عن تجسيد لأحصنة بيضاء مجتمعة معًا تحت قمر دموي اللون. عندما تأملت اللوحة، أدركت رسالة الحزن التي تتضمنها تلك الأعمال، على الرغم من ارتباطها بأحداث معينة، إلا أنها كانت سرمدية وشاملة.
غرفة المطر: التقاء الفن والتكنولوجيا
كانت هذه خطوة طائشة! نظرت إلى ساعتي ورأيت أن ساعتين قد مرتا دون أن أشعر. في واقع الأمر، كان عليّ أن أسرع لأصل في موعدي في الساعة 6 مساءً لأرى وجهتي الأخيرة من فيضان الشارقة الفني: غرفة المطر، مشروع آخر برعاية مؤسسة الشارقة للفنون. كان أصدقائي في لوس أنجلوس، حيث حققت تلك المنشأة الفنية المذهلة رقمًا قياسيًا من الزوار في عام 2016، قد تكلموا عنها بإيجابية وكنت أتوق لأن أجربها بنفسي أخيرًا.
دخلت القاعة المظلمة الغارقة في وهج غامض يصدر من كشاف وحيد مركب على الطرف البعيد من القاعة. أضاء الضوء ستارة بحجم الغرفة من الماء تنهمر من السقف دون انقطاع. كيف يمكن أن أظل جافًا أثناء سيري عبر هذا السيل المنهمر؟ ولكن انظر، عندما خطوت نحو الأمام، انقسم الماء من حولي كما قيل لي - ليست معجزة أو سحرًا، بل العلم والتكنولوجيا هما ما حققا هذا التأثير المذهل.
تستخدم راندوم إنترناشيونال، مجموعة الفنون التجريبية من لندن التي صنعت غرفة المطر، حساسات حركة مركبة داخل كاميرات تتبع ثلاثية الأبعاد لخلق تصور أن البشر يمكنهم التحكم في المطر. والهدف من الغرفة هو جعلنا نجرب الحياة في عالم يُدار بصورة متزايدة بالأجهزة الآلية والميكانيكية. ولكن، صراحة، كانت هذه التجربة تتعلق بالمرح بالنسبة لي، ناهيك عن أقصى درجات الإثارة!
كانت غرفة المطر ختامًا لا يُنسى ليوم تثقيفي مدهش من الاكتشافات والتي تفوق توقعاتي بشكل كبير. أمطار في الصحراء من دون أن تبتل! لا شك في أن الشارقة مكانًا يصبح فيه المستحيل حقيقة واقعة.
إرسال الرابط بالبريد الالكتروني
نسخ الرابط